فصل: بَابُ الرُّجُوعِ عَنْهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (نسخة منقحة)



.كِتَاب الْهِبَةِ:

وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَبَيْنَهَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ، وَهِيَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ كَذَلِكَ، وَهِيَ لُغَةً التَّفَضُّلُ عَلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ، وَلَوْ غَيْرَ مَالٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}.
وَفِي الْعِنَايَةِ إنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا} انْتَهَى، وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيَتَعَدَّى إمَّا بِاللَّامِ نَحْوُ وَهَبْته لَهُ وَحَكَى أَبُو عُمَرَ وَهَبْتُكَهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالُوا بِحَذْفِ اللَّامِ مِنْهُ، وَإِمَّا بِمِنْ نَحْوُ وَهَبْته مِنْك عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحِ كَمَا فِي دَقَائِقِ النَّوَوِيِّ فَظُنَّ مِنْ الْمُطَرِّزِيِّ أَنَّهُ خَطَأٌ، وَمِنْ التَّفْتَازَانِيِّ أَنَّهُ عِبَارَةُ الْفُقَهَاءِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ (هِيَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْهِبَةِ الْمُحَصَّنَةِ الْعَارِيَّةِ عَنْ شَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعٌ انْتِهَاءً فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ وَالْخِيَارُ كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يُنْتَقَضُ التَّعْرِيفُ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ مَا ارْتَكَبَهُ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَاعْتِرَاضُ بَعْضٍ عَلَيْهِ تَدَبَّرْ، وَالْمُرَادُ بِالْعَيْنِ عَيْنُ الْمَالِ لَا الْعَيْنُ الْمُطْلَقُ بِقَرِينَةِ التَّمْلِيكِ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الَّذِي لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَكَذَا الْمُرَادُ بِالتَّمْلِيكِ هُوَ التَّمْلِيكُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَهَبْت لِإِنْشَاءِ الْهِبَةِ حَالًا كَبِعْت فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: هِيَ تَمْلِيكُ مَالٍ لِلْحَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ لَا يَكُونُ مَالًا تَدَبَّرْ.
فَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ الْإِبَاحَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةُ وَالْبَيْعُ وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَإِنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ إسْقَاطٌ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَهِيَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ وَصُنْعٌ مَحْمُودٌ مَحْبُوبٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَقَبُولُهَا سُنَّةٌ، «فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَبِلَ هَدِيَّةَ الْعَبْدِ» وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ»، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ طَعَامٌ لَقَبِلْت، وَلَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت»، وَإِلَيْهَا أَيْ الْإِجَابَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا} أَيْ مَسْرُورًا مَرِيئًا أَيْ رَاضِيًا عَلَى الْأَكْلِ وَهِيَ نَوْعَانِ تَمْلِيكٌ وَإِسْقَاطٌ، وَعَلَيْهِمَا الْإِجْمَاعُ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ، وَسَبَبُهَا إرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْوَاهِبِ دُنْيَوِيٌّ كَالْعِوَضِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالْمَحَبَّةِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَأُخْرَوِيٌّ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُعَلِّمَ وَلَدَهُ الْجُودَ وَالْإِحْسَانَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ إذْ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَمَا فِي النِّهَايَةِ.

.شروط صحة الهبة:

وَشَرَائِطُ صِحَّتِهَا فِي الْوَاهِبِ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْمِلْكُ وَفِي الْمَوْهُوبِ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا غَيْرَ مَشَاعٍ مُمَيِّزًا غَيْرَ مَشْغُولٍ، وَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ غَيْرُ لَازِمٍ وَعَدَمُ صِحَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِيهَا وَأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

.أركان الهبة:

وَرُكْنُهَا هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ: (وَتَصِحُّ) الْهِبَةُ (بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ) عَلَى مَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا حَنِثَ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ عَدَمُ إظْهَارِ الْجُودِ، وَقَدْ وُجِدَ الْإِظْهَارُ لَكِنْ ذُكِرَ فِي الْكَرْمَانِيِّ أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْهِبَةِ عَقْدٌ تَامٌّ، وَالْقَبُولُ لَيْسَ بِرُكْنٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ الْقَبْضُ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ؛ وَلِذَا لَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبُولِ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَلَعَلَّ الْحَقَّ هَذَا، فَإِنَّ فِي التَّأْوِيلَاتِ التَّصْرِيحَ بِالْهِبَةِ غَيْرُ لَازِمٍ؛ وَلِذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ وَضَعَ مَالَهُ فِي طَرِيقٍ لِيَكُونَ مِلْكًا لِلرَّافِعِ جَازَ انْتَهَى.
لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْقَبُولَ كَمَا يَكُونُ بِالصَّرِيحِ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ قَبُولًا دَلَالَةً.
(وَتَتِمُّ) الْهِبَةُ (بِالْقَبْضِ الْكَامِلِ)، وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ شَاغِلًا لِمِلْكِ الْوَاهِبِ لَا مَشْغُولًا بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْيُ الْمِلْكِ لَا الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ ثَابِتٌ خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ لَيْسَ الْقَبْضُ بِشَرْطِ الْهِبَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ: هِبَةُ الشَّاغِلِ تَجُوزُ، وَهِبَةُ الْمَشْغُولِ لَا تَجُوزُ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ اشْتِغَالَ الْمَوْهُوبِ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ مِثَالُهُ: وَهَبَ جِرَابًا فِيهِ طَعَامٌ لَا تَجُوزُ، وَلَوْ وَهَبَ طَعَامًا فِي جِرَابٍ جَازَتْ وَاشْتِغَالُ الْمَوْهُوبِ بِمِلْكِ غَيْرِ الْوَاهِبِ هَلْ يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ، فَإِنَّهُ قَالَ: أَعَارَ دَارًا مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَعِيرَ غَصَبَ مَتَاعًا وَوَضَعَهُ فِي الدَّارِ، ثُمَّ وَهَبَ الْمُعِيرُ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي الدَّارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمُعِيرَ هُوَ الَّذِي غَصَبَ الْمَتَاعَ وَوَضَعَهُ فِي الدَّارِ، ثُمَّ وَهَبَ الْمُعِيرُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ كَانَتْ الْهِبَةُ تَامَّةً وَتَمَامُهُ فِيهِ فَلْيُرَاجَعْ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ وَهَبَ دَارًا وَسَلَّمَ، وَفِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ بِهِبَةٍ فَلَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ، وَلَوْ وَهَبَتْ امْرَأَةٌ دَارَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهَا، وَزَوْجُهَا أَيْضًا سَاكِنٌ فِيهَا جَازَتْ الْهِبَةُ وَيَصِيرُ الزَّوْجُ قَابِضًا لِلدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَمَتَاعَهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ فَصَحَّ التَّسْلِيمُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ دَارًا، وَالدَّارُ مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعِ الْوَاهِبِ جَازَتْ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِدَارٍ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَالْأَبُ سَاكِنُهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَالْمُرَادُ بِالْقَبْضِ الْكَامِلِ فِي الْمَنْقُولِ مَا هُوَ الْمُنَاسِبُ وَفِي الْعَقَارِ أَيْضًا مَا يُنَاسِبُهُ، فَأَخْذُ مِفْتَاحِ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ قَبْضٌ لَهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ ثِيَابًا فِي صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ وَدَفَعَ الصُّنْدُوقَ لَا يَكُونُ قَبْضًا فَلَا تَتِمُّ الْهِبَةُ.
وَفِي الْفُصُولَيْنِ هِبَةُ الْمَرِيضِ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إذْ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ، وَلَوْ كَانَتْ وَصِيَّةً حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَكِنَّهَا هِبَةٌ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ.
(فَإِنْ قَبَضَ) الْمَوْهُوبُ (فِي الْمَجْلِسِ) أَيْ مَجْلِسِ الْهِبَةِ (بِلَا إذْنٍ) صَرِيحٍ مِنْ الْوَاهِبِ (صَحَّ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَبْضَ كَالْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ مِنْهُ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبُولِ.
(وَبَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ أَرَادَ بِهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ (لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ) الصَّرِيحِ فَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِلَا إذْنٍ صَرِيحٍ؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ، وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَا مَا نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا نَهَى عَنْ الْقَبْضِ صَرِيحًا، فَإِنَّ التَّسْلِيطَ مَوْجُودٌ لَكِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَبْضُ أُجِيبُ بِأَنَّهُ إذَا نَهَاهُ صَرِيحًا لَا تَعْمَلُ الدَّلَالَةُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ بِمُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ فَلِهَذَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ لَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَا بَعْدَهُ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ: وَالْحَاصِلُ إنَّهُ إذَا أَذِنَ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا يَصِحُّ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ وَيَمْلِكُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَلَوْ نَهَى عَنْ الْقَبْضِ بَعْدَ الْهِبَةِ لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ لَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ قِيَاسًا، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إنْ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ الْقَبْضُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ غَائِبًا فَذَهَبَ وَقَبَضَ، فَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ جَازَ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ هَذَا لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّأْوِيلَاتِ انْتَهَى.
لَكِنْ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنَّ وَضْعَ مَالِهِ فِي طَرِيقٍ لِيَكُونَ مِلْكًا لِلرَّافِعِ إذْنٌ بِالْقَبْضِ دَلَالَةً فَيَجُوزُ فَلَا مُخَالَفَةَ أَصْلًا تَدَبَّرْ.
(وَتَنْعَقِدُ) الْهِبَةُ (بِوَهَبْتُ) أَيْ بِقَوْلِهِ: وَهَبْت؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ.
وَفِي الْفَرَائِدِ قَالَ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا، وَتَصِحُّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَمَالَ إلَى أَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْعَقِدُ بِوَهَبْتُ إلَى آخِرِهِ: وَمَالَ إلَى أَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ الْإِيجَابُ فَقَطْ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ فَعَلَ كَذَلِكَ لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بَيَّنَ أَوَّلًا الرُّكْنَ فَقَالَ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَلْفَاظَ الْإِيجَابِ فَقَالَ: وَتَنْعَقِدُ بِوَهَبْتُ إلَى آخِرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفَرَائِدِ تَدَبَّرْ (وَنَحَلْت) لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ (وَأَعْطَيْت وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ)؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا نُسِبَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يَكُونُ هِبَةً كَمَا مَرَّ أَطْلَقَهُ فَشَمَلَ مَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَاحِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ قَالَ: هَبْنِي هَذَا الشَّيْءَ عَلَى وَجْهِ الْمُزَاحِ فَقَالَ: وَهَبْت وَسَلَّمَ إلَيْهِ جَازَ، وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَضْرِبُونَ الطُّنْبُورَ فَقَالَ لَهُمْ: هَبُوا هَذَا مِنِّي فَدَفَعُوهُ إلَيْهِ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ فَكَسَرَهُ فَقَالُوا: يَا شَيْخُ خَدَعْتَنَا انْتَهَى.
وَشَمَلَ مَا لَوْ قَالَ لِقَوْمٍ: قَدْ وَهَبْت جَارِيَتِي هَذِهِ لِأَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا مَنْ شَاءَ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ مَلَكَهَا كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ، وَكَذَا بِقَوْلِهِ: أَذِنْت لِلنَّاسِ جَمِيعًا فِي تَمْرِ نَخْلِي مَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ فَبَلَغَ النَّاسَ فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا يَمْلِكُهُ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ الْمُنْتَقَى، ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَقَالَةُ الْوَاهِبِ لَا يَكُونُ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى لَكِنْ مُخَالِفٌ لِمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَالَهُ فِي طَرِيقٍ لِيَكُونَ مِلْكًا لِلرَّافِعِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ سَوَاءٌ بَلَغَتْهُ الْمَقَالَةُ أَوْ لَا تَأَمَّلْ (وَكَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ)؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ يُرَادُ بِهَا التَّمْلِيكُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا، وَقَالَ: أَلْبِسْ نَفْسَك فَفَعَلَ يَكُونُ هِبَةً، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فَقَالَ: أَنْفِقْهَا يَكُونُ قَرْضًا (وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهُوَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» وَلِأَنَّ الْعُمْرَى تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ فَثَبَتَ الْهِبَةُ، وَيَبْطُلُ مَا اقْتَضَاهُ مِنْ شَرْطِ الرُّجُوعِ؛ وَلِذَا لَوْ شَرَطَ الرُّجُوعَ صَرِيحًا يَبْطُلُ شَرْطُهُ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُك هَذَا الْعَبْدَ حَيَاتَك أَوْ حَيَاتَهُ، أَوْ أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ حَيَاتَك أَوْ أَعْطَيْتهَا حَيَاتَك، أَوْ وَهَبْت هَذَا الْعَبْدَ حَيَاتَك، فَإِذَا مِتَّ فَهُوَ لِي، وَإِذَا مِتُّ فَهُوَ لِوَرَثَتِي فَهَذَا تَمْلِيكٌ صَحِيحٌ وَشَرْطُهُ بَاطِلٌ (وَجَعَلْته لَك عُمْرِي)؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلتَّمْلِيكِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: مَلَّكْتُك هَذَا الشَّيْءَ إلَى آخِرِ عُمْرِي (وَدَارِي لَك) حَالَ كَوْنِهَا (هِبَةً تَسْكُنُهَا)؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي لَك لِلتَّمْلِيكِ ظَاهِرًا، وَقَوْلُهُ: تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: هَذَا الطَّعَامُ لَك تَأْكُلُهُ (وَبِنِيَّتِهَا) أَيْ بِنِيَّةِ الْهِبَةِ (فِي حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ)؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْهِبَةِ مَجَازًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ النِّيَّةُ كَمَا مَرَّ فِي الْعَارِيَّةِ.
(وَإِنْ قَالَ: دَارِي لَك) حَالَةَ كَوْنِهَا (هِبَةً سُكْنَى) لِمَا مَرَّ أَنَّ سُكْنَى تَمْيِيزٌ فَتَصِيرُ تَفْسِيرًا لِمَا قَالَهُ لِكَوْنِهِ مُحْكَمًا فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فَتَكُونُ عَارِيَّةً (أَوْ) دَارِي لَك حَالَ كَوْنِهَا (سُكْنَى هِبَةً)؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَمْلِيكَ مَنْفَعَةٍ (أَوْ) دَارِي لَك حَالَ كَوْنِهَا (نُحْلَى) عَلَى وَزْنِ حُبْلَى الْعَطِيَّةُ (سُكْنَى) فَتَقْدِيرُ نَحَلْتهَا نِحْلَةً سُكْنَى فَسُكْنَى يَرْفَعُ الْإِبْهَامَ (أَوْ) دَارِي لَك حَالَ كَوْنِهَا (سُكْنَى صَدَقَةً) فَسُكْنَى يُقَرِّرُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ (أَوْ) دَارِي لَك حَالَ كَوْنِهَا (صَدَقَةً عَارِيَّةً)؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَمْيِيزٌ فَيَصِيرُ تَفْسِيرًا لِمَا قَبْلَهُ (أَوْ) دَارِي لَك (عَارِيَّةً هِبَةً) أَيْ دَارِي لَك بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ حَالَ كَوْنِ مَنَافِعِهَا لَك؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَارِيَّةِ صَرِيحٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ (فَعَارِيَّةً) أَيْ فَجَمِيعُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ تَكُونُ عَارِيَّةً لَا هِبَةً.
(وَتَصِحُّ هِبَةُ مَشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ) أَيْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْسَمَ بِمَعْنَى لَا يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَصْلًا كَعَبْدٍ وَدَابَّةٍ وَلَا يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنْ جِنْسِ الِانْتِفَاعِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَمَّامِ (لَا) أَيْ لَا تَصِحُّ هِبَةُ (مَا) أَيْ مَشَاعٍ (يَحْتَمِلُهَا) أَيْ الْقِسْمَةَ عَلَى وَجْهٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَمَا قَبْلَهَا كَالْأَرْضِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ لِشَرِيكِ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ كَمَالُهُ وَالْمَشَاعُ لَا يَقْبَلُ الْقَبْضَ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ فَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ الْكَامِلُ فَاكْتَفَى بِالْقَبْضِ الْقَاصِرِ ضَرُورَةً، وَلَا تَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ خِلَافًا لِلْبَيْعِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِيهَا، وَقَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: الْهِبَةُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَتَجُوزُ فِي الْمَشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالشُّيُوعِ الْمَانِعِ الشُّيُوعَ الْمُقَارِنَ لِلْعَقْدِ لَا الطَّارِئَ كَأَنْ يَرْجِعَ الْوَاهِبُ فِي بَعْضِ الْهِبَةِ شَائِعًا، فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا، أَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَيُفْسِدُ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَا طَارِئٌ قُيِّدَ بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ الطَّارِئُ كَالْمُقَارِنِ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَفِي الدُّرَرِ اعْتِرَاضٌ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَلْيُرَاجَعْ (فَإِنْ قَسَمَ) أَيْ أَفْرَزَ الْجُزْءَ الْمَوْهُوبَ الْمَشَاعَ (وَسَلَّمَ) إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ (صَحَّ) الْعَقْدُ لِحُصُولِ الشَّرْطِ بَعْدَ رَفْعِ الشُّيُوعِ، وَهُوَ كَمَالُ الشُّيُوعِ، وَلَوْ سَلَّمَهُ شَائِعًا حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَيَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفُ الْوَاهِبِ كَمَا فِي الدُّرَرِ.
وَفِي الْمِنَحِ: هِبَةُ الْمَشَاعِ إذَا فَسَدَتْ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ، وَإِنْ قَبَضَ الْجُمْلَةَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ الْهِبَةُ الْفَاسِدَةُ مَضْمُونَةٌ بِالْقَبْضِ، وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ هُوَ الْمُخْتَارُ.
وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَالْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ الْهِبَةَ الْفَاسِدَةَ تُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ وَبِهِ يُفْتَى فَقَدْ اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ لَكِنَّ لَفْظَ الْفَتْوَى آكَدُ مِنْ لَفْظِ التَّصْحِيحِ كَمَا أَفَادَهُ فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ.
(وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ دَقِيقٍ فِي بُرٍّ وَ) هِبَةُ (دُهْنٍ فِي سِمْسِمٍ، وَسَمْنٍ فِي لَبَنٍ، وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (طُحِنَ) الْبُرُّ (أَوْ اُسْتُخْرِجَ الدُّهْنُ) مِنْ السِّمْسِمِ وَالسَّمْنُ مِنْ اللَّبَنِ (وَسُلِّمَ)؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ وَقْتَ الْهِبَةِ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ بِخِلَافِ الْمَشَاعِ إذْ هُوَ مَحَلٌّ لَهُ حَيْثُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ.
(وَهِبَةُ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ وَصُوفٍ عَلَى غَنَمٍ وَنَخْلٍ وَزَرْعٍ فِي أَرْضٍ وَتَمْرٍ فِي نَخْلٍ كَهِبَةِ الْمَشَاعِ)؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ حَتَّى إذَا فُصِلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ وَسُلِّمَتْ صَحَّتْ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْحَمْلَ وَسَلَّمَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِ احْتِمَالًا فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ.
وَفِي الْكَافِي لَوْ وَهَبَ زَرْعًا فِي أَرْضٍ وَتَمْرًا فِي شَجَرٍ وَأَمَرَهُ بِالْحَصَادِ وَالْجُذَاذِ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ وَهَبَهُ بَعْدَ الْحَصَادِ وَالْجُذَاذِ.
(وَهِبَةُ شَيْءٍ هُوَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ تَتِمُّ بِلَا تَجْدِيدِ قَبْضٍ) لِتَحَقُّقِ شَرْطِ الْهِبَةِ، وَهُوَ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْوَاجِبَ بِالْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ كُلُّ قَبْضٍ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَيَلْزَمُهُ قَبْضٌ جَدِيدٌ، وَفِي إطْلَاقِهِ شَامِلٌ لِمَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ أَوْ مَضْمُونَةٌ، وَلَوْ وَدِيعَةً كَأَنَّهُ بَعْدَ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا لِلْمَالِكِ فَاعْتُبِرَتْ يَدُ الْحَقِيقَةِ.
(وَهِبَةُ الْأَبِ لِطِفْلِهِ تَتِمُّ بِالْعَقْدِ)؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ.
(وَإِنْ) كَانَ (الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْأَبِ) فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَا لَكِنْ يَلْزَمُ الْإِشْهَادُ، وَعَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ جُحُودِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ (أَوْ) فِي (يَدِ مُودَعِهِ)؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ (إلَّا إنْ كَانَ) الْمَوْهُوبُ (فِي يَدِ غَاصِبٍ) أَيْ لَوْ غَصَبَ عَبْدَهُ مَثَلًا غَاصِبٌ فَوَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْأَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ (أَوْ) فِي يَدِ (مُبْتَاعٍ بَيْعًا فَاسِدًا) أَيْ لَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا تَجُوزُ (أَوْ) فِي يَدِ (مُتَّهَبٍ) مَعْنَاهُ لَوْ وَهَبَ لِآخَرَ بِلَا عِوَضٍ، ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا تَجُوزُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَكِنْ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَوْ فِي يَدِ مُرْتَهِنٍ مَكَانَ مُتَّهَبٍ يَعْنِي لَوْ رَهَنَ لِآخَرَ، ثُمَّ وَهَبَ لِطِفْلِهِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَتَبَّعْ.
(وَالصَّدَقَةُ فِي ذَلِكَ كَالْهِبَةِ) وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّدَقَةِ هُنَا التَّصَدُّقُ لِابْنِهِ فَقَطْ وَإِلَّا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ فَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ صَاحِبِ الْفَرَائِدِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مُطْلَقًا لَيْسَ بِشَيْءٍ تَتَبَّعْ.
(وَالْأُمُّ كَالْأَبِ) فِي أَنَّ هِبَتَهَا لِطِفْلِهَا تَتِمُّ بِالْعَقْدِ (عِنْدَ غَيْبَتِهِ) أَيْ الْأَبِ (غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً) وَتَفْسِيرُهَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ (أَوْ مَوْتِهِ) أَيْ الْأَبِ (وَعَدَمِ وَصِيِّهِ إنْ كَانَ الطِّفْلُ فِي عِيَالِهَا)؛ لِأَنَّ لِلْأُمِّ وِلَايَةَ الْحِفْظِ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا لَكِنْ بِشَرْطِ غَيْبَةِ الْأَبِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً أَوْ مَوْتِهِ وَعَدَمِ وَصِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ حُضُورِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ لَا يَكُونُ لِلْأُمِّ ذَلِكَ، وَلَوْ فِي حِجْرِهَا.
(وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَعُولُ الطِّفْلَ) كَالْعَمِّ وَالْأَخِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ تَأْدِيبُهُ وَتَسْلِيمُهُ فِي حَرْفِهِ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ النَّافِعُ بِتَمْلِيكِهِ بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَمَا فِي الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ.
(وَهِبَةُ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ) أَيْ لِلطِّفْلِ (تَتِمُّ بِقَبْضِهِ) أَيْ بِقَبْضِ الطِّفْلِ (لَوْ) كَانَ (عَاقِلًا) أَيْ مُمَيِّزًا يَعْقِلُ التَّحْصِيلَ، وَلَوْ أَبُوهُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ النَّافِعِ يَلْحَقُ بِالْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَفِي الْبَحْرِ مَنْ وَهَبَ لِصَغِيرٍ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَرَدَّهُ يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ قَبُولُهُ.
وَفِي السِّرَاجِيَّةِ مَنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرِ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ التَّعْوِيضُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَيَبِيعُ الْقَاضِي مَا وُهِبَ لِلصَّغِيرِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ.
(وَ) تَتِمُّ أَيْضًا (بِقَبْضِ أَبِيهِ) حَالَ صِغَرِهِ (أَوْ جَدِّهِ أَوْ وَصِيِّ أَحَدِهِمَا) أَيْ بِقَبْضِ وَصِيِّ الْأَبِ أَوْ وَصِيِّ الْجَدِّ الصَّحِيحِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ فِي حِجْرِهِمْ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَى الْيَتِيمِ أَمَّا الْأَبُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْجَدِّ وَالْوَصِيِّ فَلِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ (أَوْ) بِقَبْضِ (أُمِّهِ إنْ) كَانَ الطِّفْلُ (فِي حِجْرِهَا) لِمَا مَرَّ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَيُبَاحُ لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يَأْكُلَا مِنْ الْمَأْكُولِ الْمَوْهُوبِ لِلصَّغِيرِ فَأَفَادَ أَنَّ غَيْرَ الْمَأْكُولِ لَا يُبَاحُ لَهُمَا إلَّا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ، وَأَشَارَ إلَى مَا عُلِمَ أَنَّ مَا وَهَبَ لِلصَّغِيرِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ أَمَّا لَوْ اتَّخَذَ الْأَبُ وَلِيمَةً لِلْخِتَانِ فَأَهْدَى النَّاسَ هَدَايَا وَوَضَعُوا بَيْنَ يَدَيْ الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ تَصْلُحُ لِلصَّبِيِّ مِثْلُ ثِيَابِ الصِّبْيَانِ أَوْ بِشَيْءٍ يَسْتَعْمِلُهُ الصِّبْيَانُ فَالْهَدِيَّةُ لِلصَّبِيِّ وَإِلَّا يُنْظَرُ إنْ كَانَ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْأَبِ أَوْ مَعَارِفِهِ فَهُوَ لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْأُمِّ أَوْ مَعَارِفِهَا فَهُوَ لِلْأُمِّ سَوَاءٌ كَانَ الْمُهْدِي يَقُولُ عِنْدَ الْهَدِيَّةِ: هَذَا لِلصَّبِيِّ أَمْ لَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقُلْ الْمُهْدِي هَذَا لَهُ أَوْ لَهَا، وَكَذَا لَوْ اتَّخَذَ الْوَلِيمَةَ لِزِفَافِ بِنْتِهِ كَمَا مَرَّ.
وَفِي السِّرَاجِيَّةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطَايَا، وَالْعَدْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ هُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْطِيهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَوَارِيثِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ مُشْتَغِلًا بِالْعِلْمِ دُونَ الْكَسْبِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَعَلَى جَوَابِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَوْلَادِهِ مَنْ كَانَ عَالِمًا مُتَأَدِّبًا وَلَا يُعْطِي مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فَاسِقًا فَاجِرًا (أَوْ) بِقَبْضِ (أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ) وَيَحْجُرُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ النَّفْعَ فِي حَقِّهِ (أَوْ) تَتِمُّ (بِقَبْضِ زَوْجِ الطِّفْلَةِ لَهَا) أَيْ لِلطِّفْلَةِ.
(وَلَوْ) وَصْلِيَّةً (مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ بَعْدَ الزِّفَافِ) أَيْ بَعْدَ أَنْ زُفَّتْ الصَّغِيرَةُ إلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا وَقَبَضَ الْهِبَةَ مِنْهُ، وَلَوْ قَبَضَهُ الْأَبُ أَيْضًا صَحَّ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ، وَاشْتِرَاطُ الزِّفَافِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعُولُهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ الزِّفَافِ (لَا قَبْلَهُ) أَيْ لَا يَصِحُّ قَبْضُ الزَّوْجِ قَبْلَ الزِّفَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُولُهَا قَبْلَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْلَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُجَامِعُ مِثْلَهَا فِي الصَّحِيحِ.
(وَصَحَّ هِبَةُ اثْنَيْنِ لِوَاحِدٍ دَارًا)؛ لِأَنَّهَا سُلِّمَتْ جُمْلَةً وَقُبِضَتْ جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ، وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ هِبَةَ الِاثْنَيْنِ لِلِاثْنَيْنِ لَا تَجُوزُ (لَا عَكْسُهُ) أَيْ لَا تَصِحُّ هِبَةُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَزُفَرَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فَيَثْبُتُ الشُّيُوعُ، وَالْقَبْضُ فِي الْمَشَاعِ لَا يَتَحَقَّقُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَبْسِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بَاشَا: رَجُلٌ وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ وَلَيْسَتْ بِبَاطِلَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ، فَإِذَا قَبَضَا ثَبَتَ لَهُمَا الْمِلْكُ عَلَى قَوْلٍ وَبِهِ يُفْتِي كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ الْفَسَادُ لَا الْبُطْلَانُ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى (خِلَافًا لَهُمَا)، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا تَصِحُّ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ فَلَا شُيُوعَ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ.
وَفِي السِّرَاجِيَّةِ وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ دِرْهَمًا صَحِيحًا تَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهَا هِبَةُ مَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَغْشُوشَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ فَيَكُونُ مِمَّا يُقْسَمُ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ لِلرَّجُلَيْنِ لِلشُّيُوعِ.
(وَصَحَّ تَصَدُّقُ عَشَرَةِ) دَرَاهِمَ (عَلَى فَقِيرَيْنِ وَهِبَتُهَا) أَيْ هِبَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (لَهُمَا) أَيْ الْفَقِيرَيْنِ (وَلَا تَصِحَّانِ) أَيْ لَا يَصِحُّ التَّصَدُّقُ بِعَشَرَةٍ وَلَا هِبَتُهَا (لِغَنِيَّيْنِ) هَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا عَنْ الْآخَرِ حَيْثُ جَعَلَ الْهِبَةَ لِلْفَقِيرَيْنِ صَدَقَةً، وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيَّيْنِ هِبَةً، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي حُكْمٍ حَيْثُ أَجَازَ الصَّدَقَةَ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَمْ يُجِزْ الْهِبَةَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ فَجَازَتْ الِاسْتِعَارَةُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالْفَقِيرُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْهِبَةُ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا مِنْ اثْنَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى ثُلُثَ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ صَحَّ، وَإِنْ كَانُوا مَجْهُولِينَ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِأَغْنِيَاءَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَصْلِ سِوَى بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ فِي الْبَاقِينَ، فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ (خِلَافًا لَهُمَا)، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا الْهِبَةَ مِنْ شَخْصٍ جَائِزَةٌ فَالصَّدَقَةُ أَوْلَى.

.بَابُ الرُّجُوعِ عَنْهَا:

أَيْ عَنْ الْهِبَةِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُوهَبِ لَهُ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ الرُّجُوعُ صَحِيحًا، وَقَدْ يَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ مَانِعٌ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ فَقَالَ: (يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا) أَيْ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَوْ مَعَ إسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الرُّجُوعِ بِأَنْ قَالَ: أَسْقَطْت حَقِّي مِنْ الرُّجُوعِ (كُلًّا أَوْ بَعْضًا) مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ الْمَوَانِعِ الْآتِيَةِ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا لِلْوَالِدِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي لِوَلَدِهِ وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ عَنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقَةً قَبْلَهُ فَلِهَذَا قَيَّدْنَا بِبَعْدِ الْقَبْضِ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَوْهُ أَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَسْتَبِدُّ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ وَلَا حُكْمِ حَاكِمٍ إلَّا الْوَالِدُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ كَسَائِرِ أَمْوَالِ ابْنِهِ.
(وَيُكْرَهُ) أَيْ الرُّجُوعُ تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ الزَّاهِدِيَّ قَدْ وَصْفَ الرُّجُوعَ بِالْقُبْحِ، وَكَذَا الْحَدَّادِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّارِحِينَ وَلَا يُقَالُ لِلْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَيَمْنَعُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الرُّجُوعِ (حُرُوفُ دَمْعٍ خُزُقَةٍ) أَخَذَهَا مِنْ بَيْتِ شَعْرٍ قِيلَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَانِعٌ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَهْ يَا صَاحِبِي حُرُوفُ دَمْعٍ خُزُقَهْ.
وَفِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ اثْنَيْ عَشَرَ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ كَانَ زَوْجَهَا أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَعَوَّضَهَا، وَقَالَ: خُذْ هَذَا عِوَضَ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا عَنْهَا، أَوْ جَزَاءً عَنْهَا أَوْ مُكَافَأَةً عَنْهَا أَوْ فِي مُقَابِلِهَا، أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ زَادَ فِيهَا زِيَادَةً مُتَّصِلَةً بِأَنْ كَانَ عَبْدًا صَغِيرًا فَكَبِرَ، أَوْ كَانَ مَهْزُولًا فَسَمِنَ أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ كَانَ ثَوْبًا فَخَاطَهُ أَوْ صَنَعَهُ صُنْعًا يَزِيدُ أَوْ غَيَّرَهُ بِأَنْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ، أَوْ كَانَ لَبَنًا فَاتَّخَذَهُ جُبْنًا أَوْ سَمْنًا أَوْ أَقِطًا أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَعَلَّمَهَا الْقُرْآنَ أَوْ الْكِتَابَةَ أَوْ الْمِشَاطَةَ، تِسْعَةُ أَشْيَاءَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ أَوْ وَلَدَتْ الْمَوْهُوبَةُ يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ دُونَ الْوَلَدِ أَوْ أَثْمَرَتْ الشَّجَرَةُ يَرْجِعُ فِي الشَّجَرِ دُونَ الثَّمَرِ أَوْ كَانَ ثَوْبًا قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ أَوْ كَانَ دَارًا فَانْهَدَمَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ وَهَبَ لِبَنِي عَمِّهِ أَوْ فِي مَرَضِهِ لِوَرَثَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ عَقِبَهُ فَلِوَرَثَتِهِ الرُّجُوعُ فِيهِ أَوْ وَهَبَ لِأَخِيهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ عَبْدًا يَرْجِعُ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ أَوْ اسْتَحَقَّ الْهِبَةَ يَرْجِعُ فِي الْعِوَضِ انْتَهَى، ثُمَّ شَرَعَ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالْفَاءِ التَّفْصِيلِيَّةِ بِقَوْلِهِ (فَالدَّالُ) مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ (الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ) بِالْمَوْهُوبِ (كَالْبِنَاءِ) عَلَى الْأَرْضِ إذَا كَانَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ لَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ فِي قِطْعَةٍ مِنْهَا بِأَنْ كَانَتْ الْأَرْضُ كَبِيرَةً بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ زِيَادَةً فِيهَا كُلِّهَا امْتَنَعَ مِنْ تِلْكَ الْقِطْعَةِ دُونَ غَيْرِهَا كَمَا فِي التَّبْيِينِ.
وَفِي السِّرَاجِيَّةِ إذَا وَهَبَ أَرْضًا فَبَنَى الْمَوْهُوبُ لَهُ فِيهَا بِنَاءً بَطَلَ الرُّجُوعُ، وَلَوْ زَالَ عَادَ حَقُّ الرُّجُوعِ (وَالْغَرْسِ) وَفِي الْمِنَحِ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ أَنْبَتَتْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا أَوْ بَنَى فِيهَا بَيْتًا أَوْ دُكَّانًا كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا (وَالسَّمْنِ) بِأَنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ هُزَالًا فَسَمِنَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَاحْتَرَزَ بِالْمُتَّصِلَةِ عَنْ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ (لَا الْمُنْفَصِلَةِ) كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ قَيَّدَ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ كَالْحَبْلِ وَقَطْعِ الثَّوْبِ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ أَوَّلًا غَيْرُ مَانِعٍ لِمَا فِي التَّبْيِينِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ إذَا وَلَدَتْ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا، فَإِذَا جُعِلَتْ وَلَمْ تُرَدَّ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ انْتَهَى.
لَكِنْ يُخَالِفُ مَا فِي السِّرَاجِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهَا قَبْلَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِزِيَادَةٍ لَمْ تَكُنْ مَوْهُوبَةً تَتَبَّعْ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمَوْهُوبِ شَيْءٌ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْقِيمَةِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَتْنِ، وَكَالْجَمَالِ وَالْخِيَاطَةِ وَالصِّبْغِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ زَادَ مِنْ حَيْثُ السِّعْرُ فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ لِلْعَيْنِ، وَكَذَا إذَا زَادَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْقِيمَةِ كَمَا إذَا طَالَ الْغُلَامُ الْمَوْهُوبُ؛ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ، وَلَوْ نَقَلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان حَتَّى ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ وَاحْتَاجَ فِيهِ إلَى مُؤْنَةِ النَّقْلِ عِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ الرُّجُوعُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ وَهَبَ عَبْدًا كَافِرًا فَأَسْلَمَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ وَهَبَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ فَعَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا يَرْجِعُ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَفَدَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الْفِدَاءَ، وَلَوْ عَلَّمَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَبْدَ الْقُرْآنَ أَوْ الْكِتَابَةَ أَوْ الصَّنْعَةَ لَمْ يَمْنَعْ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ زِيَادَةً فِي الْعَيْنِ فَأَشْبَهَتْ الزِّيَادَةَ فِي السِّعْرِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَرَوَى الْخِلَافَ فِي الْعَكْسِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ فَالْقَوْلُ لِلْوَاهِبِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ لُزُومَ الْعَقْدِ كَمَا فِي التَّبْيِينِ وَشَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَيْنِيِّ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ، وَلَوْ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَوْ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ، أَوْ كَانَتْ أَعْجَمِيَّةً فَعَلَّمَهَا الْكَلَامَ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحُرُوفِ لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَيْنِ انْتَهَى هَذَا يُخَالِفُ مَا فِي التَّبْيِينِ كَمَا فِي الْمِنَحِ، وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ التَّبْيِينِ أَشَارَ إلَى مَا فِي الْخَانِيَّةِ فَقَالَ: وَيُرْوَى الْخِلَافُ فِي الْعَكْسِ تَدَبَّرْ.
وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا وَهَبَ لِرَجُلٍ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ تُرَدُّ الْهِبَةُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْعُقْرُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
(وَالْمِيمُ مَوْتُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ) أَمَّا مَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ عَنْ مِلْكِهِ وَانْتِقَالِهِ إلَى وَارِثِهِ، وَأَمَّا مَوْتُ الْوَاهِبِ فَلِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ مِنْهُ، وَالْوَارِثُ لَيْسَ بِوَاهِبٍ وَالنَّصُّ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ هَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَرُجُوعُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُبْطِلٌ لَهَا كَالْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَذِنَ لِلْمُسْلِمِ فِي قَبْضِهِ وَقَبَضَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ جَازَ اسْتِحْسَانًا.
(وَالْعَيْنُ الْعِوَضُ الْمُضَافُ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْهِبَةِ (إذَا قَبَضَ) الْوَاهِبُ الْعِوَضَ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (نَحْوُ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا عَنْهَا) أَيْ عَنْ هِبَتِك (أَوْ) خُذْهُ (فِي مُقَابَلَتِهَا) أَيْ مُقَابَلَةِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِهِ عِوَضًا أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَعْلَمُ الْوَاهِبُ أَنَّهُ عِوَضٌ.
(وَلَوْ) وَصْلِيَّةٌ (كَانَ) التَّعْوِيضُ (مِنْ أَجْنَبِيٍّ) أَيْ جَازَ الْعِوَضُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَسَقَطَ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَلَوْ كَانَ التَّعْوِيضُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا رُجُوعَ لِلْمُعَوِّضِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ شَرِيكَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ لِإِنْسَانٍ إلَّا إذَا قَالَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ (فَلَوْ لَمْ يُضِفْ) أَيْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْهُوبُ لَهُ: خُذْ عِوَضَ هِبَتِك يَكُونُ فِعْلُهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَا تَعْوِيضًا فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْقَبْضِ (فَلِكُلِّ) وَاحِدٍ مِنْهُمَا (أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ) وَفِي الْمَبْسُوطِ هَذَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْهِبَةُ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِيهَا الرِّبَا، وَإِنَّمَا هِيَ لِقَطْعِ الرُّجُوعِ.
(وَالْخَاءُ الْخُرُوجُ) أَيْ خُرُوجُ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ (عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ) بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَإِنْ تَبَدَّلَ الْمِلْكُ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ فَلَوْ ضَحَّى الشَّاةَ الْمَوْهُوبَةَ أَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِهَا، وَصَارَتْ لَحْمًا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
(وَالزَّايُ الزَّوْجِيَّةُ) أَيْ الزَّوْجِيَّةُ مَانِعَةٌ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الصِّلَةُ أَيْ الْإِحْسَانُ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ (وَقْتَ الْهِبَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لَوْ وَهَبَ، ثُمَّ نَكَحَ)؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وَقْتَ الْهِبَةِ (لَا) يَرْجِعُ (لَوْ وَهَبَ، ثُمَّ أَبَانَ) لِوُجُودِ الزَّوْجِيَّةِ الْمَانِعَةِ وَقْتَ الْهِبَةِ.
(وَالْقَافُ الْقَرَابَةُ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَلَ وَفِي الرُّجُوعِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَلَا يَرْجِعُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَرِيبُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، ثُمَّ فَسَّرَ الْقَرَابَةَ بِقَوْلِهِ: (فَلَا رُجُوعَ فِيمَا وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) مِنْ الْوَاهِبِ، وَإِنْ وَهَبَ لِمَحْرَمٍ بِلَا رَحِمٍ كَأَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ وَأَزْوَاجِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَقَيَّدَ بِالْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الرَّحِمَ بِلَا مَحْرَمٍ كَابْنِ عَمِّهِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَوْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ أَوْ لِأَخِيهِ، وَهُوَ عَبْدٌ لِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيهَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَقَالَا لَا يَرْجِعُ فِي الْأُولَى، وَيَرْجِعُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَا أَيْ الْعَبْدُ وَمَوْلَاهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِبِ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا أَيْ فِي الْهِبَةِ لِلْوَاهِبِ اتِّفَاقًا عَلَى الْأَصَحِّ.
(وَالْهَاءُ هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ)، فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ لِتَعَذُّرِهِ بَعْدَ الْهَلَاكِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ (وَالْقَوْلُ فِيهِ) أَيْ فِي الْهَلَاكِ (قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: هَلَكَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ الْوَاهِبُ: هِيَ هَذِهِ حَلَفَ الْمُنْكِرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ هَذِهِ كَمَا يَحْلِفُ الْوَاهِبُ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَيْسَ بِأَخِيهِ إذَا ادَّعَى الْأَخُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمِنَحِ (وَفِي الزِّيَادَةِ قَوْلُ الْوَاهِبِ) أَيْ لَوْ ادَّعَى الْمَوْهُوبُ لَهُ ازْدِيَادَ مَا فِي يَدِهِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً وَأَنْكَرَهَا الْوَاهِبُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ.
(وَلَوْ عَوَّضَ) الْمَوْهُوبُ لَهُ (فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ)؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعِوَضِ عِوَضٌ عَنْ نِصْفِ الْهِبَةِ فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ نِصْفَ الْهِبَةِ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْعِوَضِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
(وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَا يَرْجِعُ) الْوَاهِبُ (بِشَيْءٍ حَتَّى يَرُدَّ بَاقِيَهُ) أَيْ بَاقِيَ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لَيْسَ بِبَدَلٍ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَوِّضَهُ أَقَلَّ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَمَا جَازَ لِلرِّبَا، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ لِيُسْقِطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ إلَّا بِسَلَامَةِ كُلِّ الْعِوَضِ، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ كُلُّهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ إذْ عِنْدَهُ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْمَوْهُوبِ.
(وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْكُلَّ رَجَعَ بِالْكُلِّ فِيهِمَا) أَيْ لَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْهِبَةِ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي جَمِيعِ الْعِوَضِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِمِثْلِهِ إنْ هَالِكًا، وَهُوَ مِثْلِيٌّ وَبِقِيمَتِهِ إنْ قِيَمِيًّا، وَلَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْعِوَضِ حَيْثُ يَرْجِعُ فِي كُلِّ الْهِبَةِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً لَا إنْ هَالِكَةً، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا تَزْدَادَ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ فَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ، وَقَدْ ازْدَادَتْ الْهِبَةُ لَمْ يَرْجِعْ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.
(وَلَوْ عَوَّضَ عَنْ نِصْفِهَا) أَيْ الْهِبَةِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْوَاهِبِ (أَنْ يَرْجِعَ بِمَا لَمْ يُعَوِّضْ)؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ خَصَّ النِّصْفَ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الشُّيُوعُ فِي الْهِبَةِ لَكِنَّهُ طَارَ فَلَا يَضُرُّهُ.
وَفِي الْمِنَحِ نَقْلًا عَنْ الْمُجْتَبَى أَنَّ الْعِوَضَ الْمَانِعَ مِنْ الرُّجُوعِ هُوَ الْمَشْرُوطُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ أَمَّا إذَا عَوَّضَهُ بَعْدَهُ فَلَا، وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرَهُ، وَفُرُوعُ الْمَذْهَبِ فِي هَذَا الْبَابِ مُطْلَقَةٌ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ دَقِيقَ الْحِنْطَةِ يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهَا، وَمِنْ أَنَّهُ لَوْ عَوَّضَهُ وَلَدَ أَحَدِ جَارِيَتَيْنِ مَوْهُوبَتَيْنِ وُجِدَ بَعْدَ الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَتَمَامُهُ فِيهِ فَلْيُطَالَعْ.
(وَلَوْ خَرَجَ نِصْفُهَا) أَيْ نِصْفُ الْهِبَةِ (عَنْ مِلْكِهِ) أَيْ الْمَوْهُوبِ لَهُ (فَلَهُ) أَيْ لِلْوَاهِبِ (أَنْ يَرْجِعَ بِمَا لَمْ يَخْرُجْ) عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الرُّجُوعِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا فِي النِّصْفِ فَيَتَقَدَّرُ الِامْتِنَاعُ بِقَدْرِهِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِي كُلِّ الْهِبَةِ فَفِي النِّصْفِ أَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا لَمْ يُعَوِّضْ.
(وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ) عَنْ الْهِبَةِ (إلَّا بِتَرَاضٍ) مِنْ الطَّرَفَيْنِ (أَوْ حُكْمِ قَاضٍ) بِالرُّجُوعِ لِوِلَايَتِهِ عَلَى الْعَامَّةِ وَلِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا كَالرِّدَّةِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ إذْ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الثَّوَابَ وَالتَّحَبُّبَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَرْجِعُ لِحُصُولِ الْمَرَامِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعِوَضَ، وَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِلْزَامِ وَالْقَضَاءِ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ بِدُونِهِمَا، ثُمَّ فَرَّعَهُ بِقَوْلِهِ.
(فَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ) الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ (بَعْدَ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ نَفَذَ) إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَى فَيَصِحُّ إعْتَاقُهُ قَبْلَهَا.
(وَلَوْ مَنَعَهُ) أَيْ مَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْمَوْهُوبَ عَنْ الْوَاهِبِ بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ (فَهَلَكَ) الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ (لَا يَضْمَنُ)؛ لِأَنَّ يَدَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إلَّا إذَا طَلَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَمَنَعَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِمَنْعِهِ طَلَبَهُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْعِ بَعْدَ الرُّجُوعِ وَبَيْنَ الْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ (وَهُوَ) أَيْ الرُّجُوعُ (مَعَ أَحَدِهِمَا) أَيْ مَعَ التَّرَاضِي أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي (فَسْخٌ) لِعَقْدِ الْهِبَةِ (مِنْ الْأَصْلِ)، أَوْ إعَادَةٌ لِلْمِلْكِ الْقَدِيمِ (لَا هِبَةٌ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ) وَعِنْدَ زُفَرَ الرُّجُوعُ بِالتَّرَاضِي عَقْدٌ جَدِيدٌ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ.
وَلَنَا أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ وَقَعَ جَائِزًا مُوجِبًا لِحَقِّ الْفَسْخِ، فَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ غَيْرَ لَازِمٍ لَا ابْتِدَاءً لِعَقْدٍ جَدِيدٍ، ثُمَّ فَرَّعَهُ بِقَوْلِهِ (فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ) أَيْ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ لَا فِي عَوْدِهِ إلَى الْمِلْكِ الْقَدِيمِ.
(وَصَحَّ) أَيْ الرُّجُوعُ (فِي الْمَشَاعِ) الْقَابِلِ لِلْقِسْمَةِ بِأَنْ وَهَبَ دَارًا وَرَجَعَ فِي نِصْفِهَا، وَلَوْ كَانَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَمَا صَحَّ فِي الْمَشَاعِ الْقَابِلِ لِلْقِسْمَةِ.
(وَإِنْ تَلِفَ الْمَوْهُوبُ) عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ (فَاسْتَحَقَّ) مُسْتَحِقٌّ (فَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ) قِيمَتَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ (لَا يَرْجِعُ عَلَى وَاهِبِهِ) بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّلَامَةَ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ عَامِلٌ لَهُ، وَبِخِلَافِ الْمُعَاوَضَاتِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ، وَالْإِعَارَةُ كَالْهِبَةِ هُنَا كَمَا فِي التَّنْوِيرِ.
(وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةُ ابْتِدَاءٍ) أَيْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ (فَشَرْطُ الْقَبْضِ فِي الْعِوَضَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ لِمَا مَرَّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاهِبٌ مِنْ وَجْهٍ (وَمَنْعُهَا) أَيْ الْهِبَةِ (الشُّيُوعَ) فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ (فِي أَحَدِهِمَا) أَيْ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ لَا تَصِحُّ (بَيْعُ انْتِهَاءٍ) أَيْ فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ التَّقَابُضِ (فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ) إذَا كَانَ عَقَارًا كَمَا مَرَّ (وَخِيَارُ الْعَيْبِ وَالشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَشَرْطُ وَفِي قَوْلِهِ فَتَثْبُتُ نَتِيجَةُ مَا قَبْلَهُمَا مِنْ الْكَلَامِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بَيْعٌ مُطْلَقًا أَيْ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَكَانَ بَيْعًا، وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى وَجْهَيْنِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ فَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ فَيُجْرِي فِيهِ أَحْكَامَ الْهِبَةِ وَانْتِهَاؤُهُ مُعْتَبَرًا بِمَعْنَاهُ فَيُجْرِي فِيهِ أَحْكَامَ الْبَيْعِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ حُكْمِهَا تَأْخِيرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ وَمِنْ حُكْمِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ وَقَدْ يَنْقَلِبُ الْهِبَةُ الْبَيْعَ بِالتَّعْوِيضِ هَذَا إذَا ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى بِأَنْ يُقَالَ: وَهَبْتُك ذَا عَلَى أَنْ تُعَوِّضَنِي كَذَا إذْ لَوْ قَالَ وَهَبْتُك بِكَذَا فَهُوَ بَيْعٌ إجْمَاعًا كَمَا فِي الْحَقَائِقِ وَالْغَايَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً كَمَا فِي الْبَحْرِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَرْفُ الشَّرْطِ كَلِمَةَ إنْ بِأَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُك كَذَا إنْ كَانَ كَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ بَاطِلَةً كَالْبَيْعِ.

.فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ:

(وَمَنْ وَهَبَ أَمَةً إلَّا حَمْلَهَا أَوْ) وَهَبَهَا (عَلَى) شَرْطِ (أَنْ يَرُدَّهَا) أَيْ يَرُدَّ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَمَةَ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَاهِبِ (أَوْ) عَلَى أَنْ (يُعْتِقَهَا أَوْ) عَلَى أَنْ (يَسْتَوْلِدَهَا) أَيْ يَتَّخِذَ الْأَمَةَ أُمَّ وَلَدٍ (صَحَّتْ الْهِبَةُ) فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا (وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ قَصْدًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَعْلَمُ وُجُودَهُ حَقِيقَةً فَتَصِحُّ فِيهِمَا، وَفِي الْجَنِينِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ إفْرَادَ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ جَائِزٌ، وَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ.
(وَ) بَطَلَ (الشَّرْطُ) فِي الصُّوَرِ الْبَاقِيَةِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالتَّمْلِيكِ فَيَكُونُ فَاسِدًا، وَالْهِبَةُ لَا تَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَمَا مَرَّ.
(وَكَذَا) تَصِحُّ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ (لَوْ وَهَبَ دَارًا عَلَى أَنْ يَرُدَّ) أَيْ الْمَوْهُوبُ لَهُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَاهِبِ (بَعْضَهَا) أَيْ الدَّارِ (أَوْ) عَلَى أَنْ (يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا) أَيْ مِنْ الدَّارِ، وَاعْتَرَضَ الزَّيْلَعِيُّ تَبَعًا لِصَاحِبِ النِّهَايَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَمَّا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَهِيَ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: وَبَطَلَ الشَّرْطُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهَا انْتَهَى، وَأَجَابَ صَاحِبُ الدُّرَرِ بِأَنْ نَخْتَارَ الشِّقَّ الْأَوَّلَ، وَقَوْلُهُ: فَهِيَ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا كَمَا عَرَفْت مِنْ الْمَبَاحِثِ السَّابِقَةِ وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي الصَّدَقَةِ انْتَهَى لَكِنْ إنَّ مَا جَعَلَ مَبْنَى الْجَوَابِ مِنْ كَوْنِ الْعِوَضِ الْمَجْهُولِ شَرْطًا فَاسِدًا مُوَافِقٌ لِلْخَانِيَةِ فِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ الْأَرْضِ بِشَرْطِ إنْفَاقِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى الْوَاهِبِ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَلَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَقْتَضِي عِوَضًا مَجْهُولًا، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّا نَخْتَارُ الشِّقَّ الثَّانِيَ وَلَا تَكْرَارَ؛ لِأَنَّ فِي عِبَارَةِ الْعِوَضِ مَظِنَّةَ الصِّحَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى لَكِنَّ الْأَوْلَى مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَيْنِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ عِوَضًا إنَّمَا هُوَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا وَلَا يَكُونَ عِوَضًا لِعَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَصَرِيحٌ بِالْعِوَضِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ.
(وَلَوْ دَبَّرَ الْحَمْلَ، ثُمَّ وَهَبَهَا) أَيْ الْأَمَةَ (فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ)؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ إلَى مَوْتِهِ فَصَارَ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ) أَيْ الْحَمْلَ (ثُمَّ وَهَبَهَا) أَيْ الْأَمَةَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ فِي الْوَلَدِ وَالْهِبَةِ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ لَمْ يَبْقَ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ فَلَمْ تَشْتَغِلْ الْأَمَةُ غَيْرَ حَضَانَةِ الْوَلَدِ.
(وَمَنْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَالدَّيْنُ لَك أَوْ) قَالَ: (فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الدَّيْنِ (أَوْ) قَالَ: (إنْ أَدَّيْت إلَيَّ نِصْفَهُ) أَيْ الدَّيْنِ (فَالْبَاقِي) أَيْ النِّصْفُ الْآخَرُ (لَك أَوْ) قَالَ لَهُ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ نِصْفَهُ (فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي (فَهُوَ بَاطِلٌ)؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فَيَبْطُلُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيَّ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ، وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ كَمَا فِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ: إنْ كَانَ لِي عَلَيْك دَيْنٌ أَبْرَأْتُك عَنْهُ، وَلَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ كَائِنٍ فَيَكُونُ تَنْجِيزًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْمَرِيضِ: إنْ مِتَّ مِنْ مَرَضِك هَذَا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ مَهْرِي أَوْ قَالَتْ: مَهْرِي عَلَيْك صَدَقَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ وَتَعْلِيقٌ، وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِمَدْيُونِهِ: إذَا مِتُّ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْك جَازَ وَيَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ الطَّالِبِ لِلْمَطْلُوبِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَالْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعْمَرِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ الْمَوْهُوبُ لَهُ (حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مِنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهُوَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ»؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ بُطْلَانُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلِوَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى تَفْسِيرِ الْعُمْرَى بِقَوْلِهِ: (وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ، فَإِذَا مَاتَ رُدَّتْ) الدَّارُ (إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْوَاهِبِ بَطَلَ شَرْطُ الرَّدِّ بَعْدَ الْمَوْتِ لِمَا مَرَّ.
(وَالرُّقْبَى) بِضَمِّ الرَّاءِ (بَاطِلَةٌ)، فَإِنْ قَبَضَهَا كَانَتْ عَارِيَّةً (فِي يَدِهِ) هَذَا عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَصِحُّ كَالْعُمْرَى) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا» وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِرْقَابِ مَعْنَاهُ رَقَبَةُ دَارِي لَك، وَذَلِكَ جَائِزٌ لَكِنْ لَمَّا احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ لَمْ تَثْبُتْ الْهِبَةُ بِالشَّكِّ فَتَكُونُ عَارِيَّةً، ثُمَّ أَشَارَ إلَى تَفْسِيرِهَا بِقَوْلِهِ: (وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ قَبْلَك فَلَكَ ذَلِكَ، وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي فَلِي) فَيَتَرَقَّبُ كُلُّ وَاحِدٍ مَوْتَ صَاحِبِهِ.
وَفِي التَّنْوِيرِ بَعَثَ إلَى امْرَأَتِهِ مَتَاعًا، وَبَعَثَتْ لَهُ أَيْضًا، ثُمَّ افْتَرَقَا بَعْدَ الزِّفَافِ، وَادَّعَى أَنَّهُ عَارِيَّةٌ، وَأَرَادَ الِاسْتِرْدَادَ وَأَرَادَتْ أَيْضًا يَسْتَرِدُّ كُلٌّ مَا أَعْطَى لِمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي ظَهِيرِ الدِّينِ مِنْ أَنَّهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبَعَثَ هَدَايَا إلَيْهَا وَعُوِّضَتْ الْمَهْرَ لِهَدَايَا عِوَضًا لِلْهِبَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هِبَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا، وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَرِدَّ.
(وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ)؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ مِثْلُهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (لَا تَصِحُّ) الصَّدَقَةُ (بِدُونِ الْقَبْضِ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَقْبُوضَةً كَالْهِبَةِ (وَلَا) تَصِحُّ فِي مَشَاعٍ (يُقَسَّمُ) أَنْ يَحْتَمِلَ الْقِسْمَةَ كَسَهْمٍ مِنْ الدَّارِ عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ (وَلَا رُجُوعَ فِيهَا) أَيْ فِي الصَّدَقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الثَّوَابُ دُونَ الْعِوَضِ.
(وَلَوْ) كَانَتْ الصَّدَقَةُ (لِغَنِيٍّ) اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ الثَّوَابَ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَاهِبُ: كَانَتْ هِبَةً وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: صَدَقَةً فَالْقَوْل لِلْوَاهِبِ.
وَفِي الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ كَلَامٌ، وَفِي حَاشِيَتِهِ لِلْمَوْلَى سَعْدِي جَوَابٌ فَلْيُطَالَعْ.
(وَلَا) رُجُوعَ (فِي الْهِبَةِ لِفَقِيرٍ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِغَنِيٍّ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ (لَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَالِي أَوْ مَا أَمْلِكُهُ لِفُلَانٍ فَهُوَ هِبَةٌ)؛ لِأَنَّ مَمْلُوكَهُ لَا يَصِيرُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِتَمْلِيكِهِ.
(وَإِنْ قَالَ: مَا يَنْسُبُ إلَيَّ أَوْ مَا يَعْرِفُ لِي) فُلَانٌ (فَإِقْرَارٌ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّمْلِيكُ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ إنَّهُ مِلْكٌ لِفُلَانٍ وَلَكِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيَّ بِكَوْنِهِ فِي يَدَيَّ فَيَكُونُ إقْرَارًا.
وَفِي التَّنْوِيرِ هِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَإِبْرَاؤُهُ عَنْهُ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَاطِلٌ إلَّا إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ.
وَفِي الْمِنَحِ نَقْلًا عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى لَمَّا سَأَلْته عَمَّنْ كَتَبَ قِصَّةً إلَى السُّلْطَانِ وَسَأَلَ مِنْهُ تَمْلِيكَ أَرْضٍ مَحْدُودَةٍ فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِالتَّوْقِيعِ فَكَتَبَ كَاتِبُ السُّلْطَانِ عَلَى ظَهْرِ الْقِصَّةِ: إنِّي جَعَلْت الْأَرْضَ مِلْكًا لَهُ هَلْ تَصِيرُ الْأَرْضُ مِلْكًا لَهُ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ السُّلْطَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ قَالَ: الْقِيَاسُ نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ عَنْ السُّلْطَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهِ أُقِيمَ السُّؤَالُ بِالْقِصَّةِ مَقَامَ حُضُورِهِ، فَإِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ بِالتَّوْقِيعِ تَمَلَّكَ.

.كِتَابُ الْإِجَارَةِ:

عَقَّبَهُ بِالْهِبَةِ تَرَقِّيًا مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ أَقْوَى وَهِيَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ.
وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ، فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرَ آجَرَ زَيْدٌ يَأْجُرُ بِالضَّمِّ أَيْ صَارَ أَجِيرًا إلَّا أَنَّهَا فِي الْأَغْلَبِ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِيجَارِ الْمَصْدَرُ يُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ الْبَعْضِ فَيُقَالُ: آجَرْت إجَارَةً أَيْ أَكْرَيْتُهَا وَلَمْ يَجِئْ مِنْ فَاعِلٍ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ كَذَا فِي الرِّضَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: الْإِجَارَةُ فِعَالَةٌ مِنْ الْمُفَاعَلَةِ وَآجَرَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ لَا أَفْعَلَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَارَ لَمْ يَجِئْ مِنْهُ، وَالْمُضَارِعُ يُؤَاجِرُ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ الْمُؤَاجِرُ وَعِنْدَ الْخَلِيلِ أَجَرْت زَيْدًا مَمْلُوكِي أُوجِرُهُ إيجَارًا وَفِي الْأَسَاسِ آجَرَ وَهُوَ مُؤَجِّرٌ وَلَمْ يَقُلْ مُؤَاجِرٌ، فَإِنَّهُ غَلَطٌ وَمُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعٍ قَبِيحٍ، وَقَدْ جَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَدَبِ كَوْنَ آجَرَهُ الدَّارَ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَالْمُفَاعَلَةِ مَعًا.
وَفِي الْإِصْلَاحِ (هِيَ) أَيْ الْإِجَارَةُ (بَيْعُ مَنْفَعَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ بَيْعِ عَيْنٍ (مَعْلُومَةٍ) جِنْسًا وَقَدْرًا (بِعِوَضٍ) مَالِيٍّ أَوْ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَسُكْنَى دَارٍ بِرُكُوبِ دَابَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ بِسُكْنَى دَارٍ أُخْرَى لِلرِّبَا (مَعْلُومٍ) قَدْرًا وَصِفَةً فِي غَيْرِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُمَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (دَيْنٍ) أَيْ مِثْلِيٍّ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ (أَوْ عَيْنٍ) أَيْ قِيَمِيٍّ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمَا فَخَرَجَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْعَارِيَّةُ وَالنِّكَاحُ، فَإِنَّهُ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ لَا تَمْلِيكُهَا.
وَفِي الدُّرَرِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِمْ تَمْلِيكُ نَفْعٍ مَعْلُومٍ بِعِوَضٍ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَعْرِيفًا لِلْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا لِتَنَاوُلِهِ الْفَاسِدَةَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَبِالشُّيُوعِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنْ كَانَ تَعْرِيفًا لِلْأَعَمِّ لَمْ يَكُنْ تَقْيِيدُ النَّفْعِ وَالْعِوَضِ بِالْمَعْلُومِيَّةِ صَحِيحًا وَمَا اُخْتِيرَ هَهُنَا تَعْرِيفٌ لِلْأَعَمِّ انْتَهَى لَكِنَّ الْمَقْصُودَ قَيَّدَ الْبَدَلَيْنِ بِالْمَعْلُومِيَّةِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِجَارَةَ الْفَاسِدَةَ بِالْجَهَالَةِ عَنْ التَّعْرِيفِ وَنَبَّهَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّرْعِ هِيَ الْإِجَارَةُ الْغَيْرُ الْمُفْضِيَةِ إلَى النِّزَاعِ وَجَعَلَ ذِكْرَ الْمَعْلُومِ تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ الْآتِي، وَالْمَنْفَعَةُ تُعْلَمُ تَارَةً إلَى آخِرِ تَدَبُّرٍ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى مَا سَيُوجَدُ لَا يَصِحُّ لَكِنَّهُ جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَضَرْبٍ مِنْ الْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لَازِمَةٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهَا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَقَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ.
وَفِي الْبَحْرِ وَالْمُرَادُ مِنْ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً فِي كَلَامِ مَشَايِخِنَا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ هُوَ عَمَلُ الْعِلَّةِ، وَنَفَاذُهَا فِي الْمَحَلِّ سَاعَةً فَسَاعَةً لِارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كُلَّ سَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ يُوهِمُ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ تَأَخَّرَ مِنْ زَمَانِ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ إلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَابِلٌ لِلتَّرَاخِي كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَتَمَامِهِ فِيهِ فَلْيُطَالَعْ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الْمَوْلَى سَعْدِي عَلَى الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّ الِانْعِقَادَ هُوَ ارْتِبَاطُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ، فَإِذَا حَصَلَ الِارْتِبَاطُ بِإِقَامَةِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ يَتَحَقَّقُ الِانْعِقَادُ فَمَا مَعْنَى الِانْعِقَادِ سَاعَةً فَسَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ تَدَبَّرْ وَمِنْ مَحَاسِنِ الْإِجَارَةِ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِقَلِيلٍ مِنْ الْبَدَلِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا وَحَمَّامٍ يَغْتَسِلُ فِيهَا وَإِبِلٍ يَحْمِلُ أَثْقَالَهُ إلَى بَلَدٍ لَمْ يَكُنْ يَبْلُغُهُ إلَّا بِمَشَقَّةِ النَّفْسِ وَسَبَبُهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ وَشَرْطُهَا مَعْلُومِيَّةُ الْبَدَلَيْنِ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِلَفْظَيْنِ مَاضِيَيْنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَعَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِكَذَا، أَوْ وَهَبْتُك مَنَافِعَهَا.
وَتَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، وَشَرْطُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْأُجْرَةِ وَالْمَنْفَعَةِ مَعْلُومَتَيْنِ، وَحُكْمَا وُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ سَاعَةً فَسَاعَةً كَمَا مَرَّ.
وَفِي الْمِنَحِ: وَلَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ بِالتَّعَاطِي؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ قَدْ يَجْعَلُونَ لِكُلِّ سَنَةٍ دَانِقًا وَقَدْ يَجْعَلُونَ فُلُوسًا وَفِي غَيْرِ الطَّوِيلَةِ الْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ قُلْت: مُفَادُ كَلَامِهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ تَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي انْتَهَى.
(وَمَا صَلَحَ ثَمَنًا) فِي الْبَيْعِ (صَلَحَ أُجْرَةً) فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِثَمَنِ الْمَنْفَعَةِ فَيُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَمُرَادُهُ مِنْ الثَّمَنِ مَا كَانَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ فَدَخَلَ فِيهِ الْأَعْيَانُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْمُقَايَضَةِ فَتَصْلُحُ أُجْرَةً وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ دَرَاهِمَ انْصَرَفَتْ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ مُخْتَلِفَةً فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ مَا لَمْ يُبَيِّنْ نَقْدًا مِنْهَا، فَإِنْ بَيَّنَ جَازَ وَإِلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا أَوْ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا فَالشَّرْطُ فِيهِ بَيَانُ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ قَوْلُهُ وَمَا صَلَحَ ثَمَنًا صَلَحَ أُجْرَةً لَا يُنَافِي الْعَكْسَ حَتَّى صَلَحَ أُجْرَةً مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا كَالْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ ثَمَنًا وَتَصْلُحُ أُجْرَةً إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ كَاسْتِئْجَارِ سُكْنَى الدَّارِ بِزِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَإِنْ اتَّحَدَ جِنْسُهُمَا لَا.
(وَتَفْسُدُ) الْإِجَارَةُ (بِالشُّرُوطِ) كَالْبَيْعِ (وَيَثْبُتُ فِيهَا) أَيْ فِي الْإِجَارَةِ (خِيَارُ الشَّرْطِ) كَمَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ.
(وَ) خِيَارُ (الرُّؤْيَةِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا.
(وَ) خِيَارُ (الْعَيْبِ) سَوَاءٌ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ (وَتُقَالُ) الْإِجَارَةُ (وَتُفْسَخُ) كَمَا فِي الْبَيْعِ كَمَا سَيَأْتِي وَلَمَّا ذَكَرَ فِي التَّعْرِيفِ مَعْلُومِيَّةَ الْمَنْفَعَةِ احْتَاجَ إلَى مَا بِهِ تَكُونُ مَعْلُومَةً فَقَالَ (وَالْمَنْفَعَةُ تُعْلَمُ تَارَةً بِبَيَانِ الْمُدَّةِ كَالسُّكْنَى) أَيْ كَإِجَارَةِ الدَّارِ لِلسُّكْنَى (وَالزِّرَاعَةِ) أَيْ كَأُجْرَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ (فَتَصِحُّ) إجَارَتُهَا (مُدَّةً مَعْلُومَةً أَيَّ مُدَّةً كَانَتْ)؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَ قَدْرُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا مَعْلُومًا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ فَأَفَادَ أَنَّهَا تَجُوزُ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ لَا يَعِيشُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ إلَى مِثْلِهَا عَادَةً وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلَّفْظِ، وَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّوْقِيفَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، فَإِنَّهُ تَوْقِيتٌ فَيَكُونُ مُتْعَةً وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ كَالْمُتَيَقَّنِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ فَصَارَتْ الْإِجَارَةُ مُؤَبَّدَةً مَعْنًى، وَالتَّأْبِيدُ يُبْطِلُهَا فَأَفَادَ أَنَّهَا تَجُوزُ مُضَافَةً كَمَا لَوْ قَالَ: آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ غَدًا وَلِلْمُؤَجِّرِ بَيْعُهَا الْيَوْمَ وَتَنْتَقِضُ الْإِجَارَةُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ إلَى الْغَدِ، ثُمَّ بَاعَ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَ لِلْآجِرِ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ.
وَفِي رِوَايَةٍ جَازَ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ الْمُضَافَةُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ، وَتَمَامُهُ فِي الْمِنَحِ فَلْيُطَالَعْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ.
(وَفِي الْوَقْفِ يَتْبَعُ شَرْطَ الْوَاقِفِ)؛ لِأَنَّهُ كَنَصِّ الشَّارِعِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ (فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ) الْوَاقِفُ فِي إجَارَتِهِ مُدَّةً بَلْ سَكَتَ عَنْهَا (فَالْفَتْوَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي) إجَارَةِ (الْأَرَاضِيِ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ وَفِي) إجَارَةِ (غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْأَرَاضِيِ أَنْ لَا يُزَادَ (عَلَى سَنَةٍ) وَاحِدَةٍ كَيْ لَا يَدَّعِيَ الْمُسْتَأْجِرُ مِلْكَهَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ، وَقَدْ أَفْتَى الصَّدْرُ الشَّهِيدُ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فِي الضِّيَاعِ وَعَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فِي غَيْرِهَا إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي غَيْرِهِ.
وَفِي الْمُحِيطِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى فَلَوْ آجَرَهَا الْمُتَوَلِّي أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَ لَمْ تَصِحَّ وَقِيلَ تَصِحُّ وَتُفْسَخُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا ذُكِرَتْ فِي الْوَقْفِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرَارِهَا، وَالْحِيلَةُ فِي الزِّيَادَةِ أَنْ يَعْقِدَ عُقُودًا مُتَفَرِّقَةً كُلَّ عَقْدٍ عَلَى سَنَةٍ وَيَكْتُبَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ اسْتَأْجَرَ الْوَقْفَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً بِكَذَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ لَازِمًا وَالْبَاقِي غَيْرَ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ فَلِمُتَوَلِّي الْوَقْفِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ فِي الْعُقُودِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ إذَا خَافَ بُطْلَانَ الْوَقْفِ لِعِلَّةٍ مَذْكُورَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ طَوِيلَةً بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ فِي الْكُلِّ كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَعَلَى هَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْجَوَازِ إذَا كَانَتْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْ دَعْوَى الْمِلْكِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ بِعُقُودٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا جَوَّزَهَا الْبَعْضُ تَجَاوَزَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ انْتَهَى، وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْحِيلَةَ فِي الزِّيَادَةِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يُجِيزَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ إجَارَةَ الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِأَجْرِ الْمِثْلِ لَوْ أَكْثَرَ، وَلَوْ آجَرَ النَّاظِرُ بِدُونِ أَجْرِ الْمِثْلِ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ تَمَامُ أَجْرِ الْمِثْلِ.
وَفِي الْبَحْرِ مُتَوَلِّي أَرْضِ الْوَقْفِ آجَرَهَا بِغَيْرِ أَجْرِ الْمِثْلِ يَلْزَمُ مُسْتَأْجِرَهَا تَمَامُ أَجْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى قِيلَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَارَ الْوَقْفِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ إنْ كَانَ السِّعْرُ بِحَالِهَا حَيْثُ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ يَجُوزُ، وَإِنْ غَلَا أَجْرُ مِثْلِهَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَيُجَدِّدُ ثَانِيًا وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى سَنَةٍ فَغَلَا السِّعْرُ بَعْدَ مُضِيِّ نِصْفِ السَّنَةِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى، وَيُجَدِّدُ ثَانِيًا فِيمَا بَقِيَ بِخِلَافِ الْكَرْمِ الْمُسْتَأْجَرِ لِيَأْكُلَ ثَمَرَتَهُ فِي رَأْسِ السَّنَةِ.
(وَ) الْمَنْفَعَةُ (تَارَةً تُعْلَمُ بِذِكْرِ الْعَمَلِ كَصَبْغِ الثَّوْب وَخِيَاطَتِهِ) أَيْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَ الثَّوْبَ الَّذِي يَصْبُغُ، وَلَوْنَ الصِّبْغِ بِأَنَّهُ أَحْمَرُ أَوْ نَحْوُهُ، وَقَدْرَ الصِّبْغِ إذَا كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ، وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ وَالْمَخِيطِ (وَحَمْلِ قَدْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى دَابَّةٍ مَسَافَةً مَعْلُومَةً) لِمَا فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ اسْتِئْجَارَ الدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ وَالْمَوْضِعِ حَتَّى لَوْ خَلَا عَنْهُمَا فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَبِهِ يُعْلَمُ فَسَادُ إجَارَةِ دَوَابِّ الْعَلَّافِينَ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ بَيَانِ الْوَقْتِ وَالْمَوْضِعِ.
(وَ) الْمَنْفَعَةُ (تَارَةً) تُعْلَمُ (بِالْإِشَارَةِ كَنَقْلِ هَذَا) الطَّعَامِ (مَثَلًا إلَى مَوْضِعِ كَذَا)؛ لِأَنَّهُ إذَا عَرَفَ مَا يَنْقُلُهُ مَعَ مَوْضِعٍ يَنْتَهِي إلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا.
(وَالْأُجْرَةُ) فِي الْإِجَارَةِ (لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ) أَيْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَظْهَرُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِذَا يُقَامُ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا يُقَامُ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ مُؤَجَّلًا مُوَقَّتًا عَلَى تَحَقُّقِ أَحَدِ الْأُمُورِ الْآتِي ذِكْرُهَا.
وَعَنْ هَذَا وَقَالَ (بَلْ) تُسْتَحَقُّ (بِالتَّعْجِيلِ) هُوَ (أَوْ بِشَرْطِهِ) أَيْ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ، فَإِذَا عَجَّلَ أَوْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنْ التَّبَدُّلِ لِلتَّصْرِيحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْمَعْنَى (أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا إذْ الْعَقْدُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ (أَوْ التَّمَكُّنِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْعِ إقَامَةً لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الشَّيْءِ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فَاسِدَةً لَا يَجِبُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِحَقِيقَةِ الِانْتِفَاعِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ.
(فَتَجِبُ) الْأُجْرَةُ (لَوْ قَبَضَ) الْمُسْتَأْجِرُ (الدَّارَ وَلَمْ يَسْكُنْهَا) أَيْ الدَّارَ (حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ)؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْمَنْفَعَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أُقِيمَ تَسْلِيمُ مَحَلِّهَا مَقَامَهَا إذْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَثْبُتُ بِهِ.
وَفِي النَّوَازِلِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَرْكَبْهَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلَّةٍ فِي الدَّابَّةِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ فِيهَا فَلَا أَجْرَ.
(وَتَسْقُطُ) الْأُجْرَةُ (بِالْغَصْبِ) إلَّا إذَا أَمْكَنَ إخْرَاجُ الْغَاصِبِ مِنْ الدَّارِ بِشَفَاعَةٍ وَحِمَايَةٍ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ (بِقَدْرِ فَوْتِ التَّمَكُّنِ) يَعْنِي إذَا غَصَبَ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ غَاصِبٌ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ، وَإِنْ غَصَبَ فِي بَعْضِهَا سَقَطَتْ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ إلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِالْغَصْبِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ خِلَافًا لِقَاضِي خَانْ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا تَنْفَسِخُ، وَإِطْلَاقُهُ شَامِلٌ لِلْعَقَارِ وَغَيْرِهِ وَمُرَادُهُ مِنْ الْغَصْبِ هَهُنَا الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْعَيْنِ لَا حَقِيقَتُهُ إذْ الْغَصْبُ لَا يَجْرِي فِي الْعَقَارِ عِنْدَنَا قَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ: وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُؤَجِّرُ الْغَصْبَ، وَأَعَادَهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ بِحُكْمِ الْحَالِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ السَّاكِنَ فِي الدَّارِ حَالَ الْمُنَازَعَةِ فَالْقَوْلُ لِلْمُؤَجِّرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ كَمَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ وَفِي تَنْوِيرِهِ، وَلَوْ سَلَّمَهُ أَيْ سَلَّمَ الْآجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَقْتٌ يَرْغَبُ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَقْتٌ كَذَلِكَ أَيْ يَرْغَبُ فِيهَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَا فِي بُيُوتِ مَكَّةَ وَمِنًى خُيِّرَ فِي قَبْضِ الْبَاقِي وَفِي السِّرَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا إذَا سَكَنَ دَارًا مُعَدَّةً لِلْغَلَّةِ أَوْ زَرَعَ أَرْضًا مُعَدَّةً لِلِاسْتِغْلَالِ مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ تَجِبُ الْأُجْرَةُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَفِي الْقُنْيَةِ تَسْلِيمُ الْمِفْتَاحِ فِي الْمِصْرِ مَعَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ تَسْلِيمٌ لِلدَّارِ حَتَّى تَجِبَ الْأُجْرَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْ وَتَسْلِيمُ الْمِفْتَاحِ فِي السَّوَادِ لَيْسَ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ، وَإِنْ حَضَرَ الْمِصْرَ وَالْمِفْتَاحُ فِي يَدِهِ.
(وَلِرَبِّ الدَّارِ وَالْأَرْضِ طَلَبُ الْأَجْرِ لِكُلِّ يَوْمٍ وَلِرَبِّ الدَّابَّةِ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ)؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ تَسْلِيمُهُ، وَلَوْ خُطْوَةً أَوْ سَكَنَ سَاعَةً إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا اسْتِحْسَانًا وَقَدَّرْنَا بِيَوْمٍ وَمَرْحَلَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ إلَّا إذَا بَيَّنَ زَمَانَ الطَّلَبِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيُوقَفُ الْمُؤَجَّرُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ.
وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَانْتِهَاءِ السَّفَرِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَوَّلًا.
(وَلِلْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِهِ) إذْ قَبْلَهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْبَعْضِ فَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلْأَجْرِ.
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ) عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَالتَّجْرِيدِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ إذَا خَاطَ الْبَعْضُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ يَجِبُ الْأَجْرُ لَهُ بِحِسَابِهِ كَمَا إذَا سُرِقَ الثَّوْبُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ وَاسْتَشْهَدَ فِي الْأَصْلِ بِمَا اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا فَبَنَى بَعْضَهُ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَلَهُ أَجْرُ مَا بَنَى.
وَفِي التَّنْوِيرِ ثَوْبٌ خَاطَهُ الْخَيَّاطُ بِأَجْرٍ فَفَتَقَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ هُوَ الْفَاتِقَ لِلثَّوْبِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ.
(وَلِلْخَبَّازِ) طَلَبُ الْأَجْرِ (بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُبْزِ) مِنْ التَّنُّورِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِالْإِخْرَاجِ وَفِي إطْلَاقِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الدَّقِيقِ (فَإِنْ احْتَرَقَ) الْخُبْزُ (قَبْلَ الْإِخْرَاجِ) مِنْ التَّنُّورِ (سَقَطَ الْأَجْرُ) سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ فِي بَيْتِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذَا جِنَايَةُ يَدِهِ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْقَلْعِ مِنْ التَّنُّورِ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخْبُوزًا أَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ كَمَا فِي الْغَايَةِ وَغَيْرِهَا، وَبِهَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَ الْوِقَايَةِ، فَإِنْ احْتَرَقَ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَقَبْلَهُ لَا وَلَا غُرْمَ فِيهِمَا.
وَقَوْلُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَيْ فِي الِاحْتِرَاقِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَبَعْدَ الْإِخْرَاجِ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْمَنْقُولِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ كَمَا فِي الدُّرَرِ لَكِنْ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامِ صَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَصَاحِبِ الْغَايَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاحْتِرَاقِ فِي الْوِقَايَةِ مَا لَا يَكُونُ بِصُنْعِهِ، وَفِي الْغَايَةِ مَا يَكُونُ بِصُنْعِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي الْفَصْلَيْنِ عَلَى الْخَبَّازِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ غَيْرُ وَاقِعَةٍ مِنْهُ فِيهِمَا هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ الْإِمَامِ كَمَا قِيلَ فِي الْهِدَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجِنَايَةُ فَصَاحِبُ الْوِقَايَةِ اخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ، ثُمَّ احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَقَطْ لَا فِيمَا إذَا احْتَرَقَ قَبْلَهُ تَتَبَّعْ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ: (وَإِنْ) احْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ (فَلَا) يَسْقُطُ (إنْ) كَانَ يَخْبِزُ (فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ)؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْرَاجِ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِوَضْعِهِ فِيهِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ بِأَنَّ مَنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي مَنْزِلِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالْإِخْرَاجِ بَلْ بِالتَّسْلِيمِ الْحَقِيقِيِّ (وَلَا ضَمَانَ) فِيهِمَا عِنْدَ الْإِمَامِ (وَقَالَا: إنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ ضَمَّنَهُ مِثْلَ دَقِيقِهِ وَلَا أَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْخُبْزَ وَلَهُ الْأَجْرُ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَطَبِ وَالْمِلْحِ.
وَفِي النِّهَايَةِ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَ الْإِمَامِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.
وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا مِثْلَ دَقِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بَعْدَ حَقِيقَةِ التَّسْلِيمِ.
(وَلِلطَّبَّاخِ لِلْوَلِيمَةِ) طَلَبُ الْأَجْرِ (بَعْدَ الْغَرْفِ) أَيْ بَعْدَ وَضْعِ الطَّعَامِ فِي الْقِصَاعِ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَلِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ فَلَا عُرْفَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْجَوْهَرَةِ، فَإِنْ أَفْسَدَ الطَّبَّاخُ أَوْ أَحْرَقَهُ أَوْ لَمْ يُنْضِجْهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلطَّعَامِ، وَإِذَا دَخَلَ الْخَبَّازُ أَوْ الطَّبَّاخُ الْبَيْتَ بِنَارٍ لِيَخْبِزَ بِهَا أَوْ يَطْبُخَ بِهَا فَوَقَعَتْ مِنْهُ شَرَارَةٌ فَاحْتَرَقَ بِهَا الْبَيْتُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
(وَلِضَارِبِ اللَّبِنِ) عَلَى وَزْنِ الْكَلِمِ أَيْ لِلَّذِي يَتَّخِذُ اللَّبِنَ مِنْ الطِّينِ طَلَبُ الْأُجْرَةِ (بَعْدَ إقَامَتِهِ) أَيْ إقَامَةِ اللَّبِنِ عَنْ مَحَلِّهِ عِنْدَ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ فَسَدَ بِالْمَطَرِ قَبْلَهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ (وَقَالَا بَعْدَ تَشْرِيحِهِ)، وَهُوَ جَعْلُ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى لَوْ فَسَدَ بَعْدَ الْإِقَامَةِ قَبْلَ النَّقْلِ فَلَا أَجْرَ لَهُ إذْ لَا يُؤْمَنُ الْفَسَادُ قَبْلَهُ وَلَهُ أَنَّ الْفَرَاغَ هُوَ الْإِقَامَةُ، وَالتَّشْرِيجُ عَمَلٌ زَائِدٌ كَالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْعِمَارَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ طِينٌ مُنْتَشِرٌ هَذَا إذَا لَبَّنَ فِي أَرْضِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ لَبَّنَ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يُسَلِّمَهُ، وَذَلِكَ بِالْعَدِّ بَعْدَ الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِالْعَدِّ بَعْدَ التَّشْرِيجِ قِيلَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا وَالْعُرْفُ فِي دِيَارِنَا عَلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ.
(وَمَنْ) كَانَ (لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَصَبَّاغٍ) يُظْهِرُ لَوْنًا فِي الثَّوْبِ (وَقَصَّارٍ يُقَصِّرُ بِالنَّشَا وَالْبَيْضِ) هَذَا فِي دِيَارِ الشَّامِ لِيُظْهِرَ الْبَيَاضَ الْمَسْتُورَ، وَكَذَا حُكْمُ قَصَّارٍ يُقَصِّرُ بِالْمَاءِ الصَّافِي وَالرَّمَادِ كَمَا فِي دِيَارِنَا كَمَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ لِابْنِ الشَّيْخِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْمُسْتَأْجِرِ (حَبْسُهَا) أَيْ الْعَيْنِ (لِلْأَجْرِ) أَيْ لِأَجْلِ الْأُجْرَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا.
وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ بِهِ.
وَلَنَا أَنَّ اتِّصَالَ الْعَمَلِ بِالْمَحَلِّ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهَذَا الِاتِّصَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَسْلِيمٌ بَلْ رِضَاهُ فِي تَحْقِيقِ عَمَلِ الصِّبْغِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَثَرِ فِي الْمَحَلِّ إذْ لَا وُجُودَ لِلْعَمَلِ إلَّا بِهِ، وَكَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ وَالرِّضَى لَا يَثْبُتُ مَعَ الِاضْطِرَارِ هَذَا إذَا كَانَ حَالًّا أَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ هَذَا إذَا عَمِلَ فِي دُكَّانِهِ، وَأَمَّا إذَا عَمِلَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ (فَإِنْ حَبَسَهَا) لِلْأَجْرِ (فَضَاعَتْ) الْعَيْنُ بِلَا تَعَدٍّ مِنْهُ (فَلَا ضَمَانَ) عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحَبْسِ (وَلَا أَجْرَ) لَهُ إذَا هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ هَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ (وَقَالَا: إنْ شَاءَ الْمَالِكُ ضَمِنَهُ مَصْبُوغًا، وَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ تَقْدِيرًا؛ لِوُصُولِ قِيمَتُهُ إلَيْهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ صَارَ مُسَلَّمًا حَقِيقَةً (أَوْ غَيْرَ مَصْبُوغٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ.
(وَمَنْ لَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ فِيهَا) أَيْ فِي الْعَيْنِ (كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ وَغَاسِلِ الثَّوْبِ لَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْعَامِلِ (حَبْسُهَا) أَيْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ، وَهُوَ عَرَضٌ، وَلَا لَهُ أَثَرٌ يَقُومُ مَقَامَهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ، وَلَوْ حَبَسَهَا ضَمِنَ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ قِيمَتَهَا مَقْبُولَةً وَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مَحْمُولَةٍ وَلَا أَجْرَ (بِخِلَافِ رَادِّ الْآبِقِ)، فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ عَلَى الْجُعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْهَلَاكِ فَأَحْيَاهُ بِالرَّدِّ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ (وَإِذَا أَطْلَقَ) الْمُسْتَأْجِرُ (الْعَمَلَ لِلصَّانِعِ) وَلَمْ يُقَيِّدْ بِعَمَلِهِ (فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ) كَمَا إذَا أَمَرَ أَنْ يَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ بِدِرْهَمٍ فَاللَّازِمُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ سَوَاءٌ أَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِعَانَةِ غَيْرِهِ كَالْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ إطْلَاقٌ لَا تَقْيِيدٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ.
(وَإِنْ قَيَّدَهُ بِعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ) بِأَنْ قَالَ: خُطَّهُ بِيَدِك (فَلَا) أَيْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ، وَلَوْ غُلَامَهُ أَوْ أَجِيرَهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ هُوَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ.
(وَمَنْ اسْتَأْجَرَهُ رَجُلٌ لِيَجِيءَ بِعِيَالِهِ) مِنْ مَوْضِعٍ (فَوَجَدَ بَعْضَهُمْ) أَيْ بَعْضَ الْعِيَالِ (قَدْ مَاتَ فَأَتَى بِمَنْ بَقِيَ) مِنْ الْعِيَالِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْأَجِيرِ (أَجْرُهُ بِحِسَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ هَذَا إذَا كَانَ عِيَالُهُ مَعْلُومِينَ حَتَّى يَكُونَ الْأَجْرُ مُقَابِلًا بِجُمْلَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِينَ يَجِبُ الْأَجْرُ كُلُّهُ كَمَا فِي التَّبْيِينِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا مَعْلُومِينَ وَإِلَّا فَكُلُّهُ لَكَانَ أَوْلَى وَفِي الْخُلَاصَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَعْلُومِينَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ.
(وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ لِإِيصَالِ طَعَامٍ إلَى زَيْدٍ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا) أَوْ لَمْ يَجِدْهُ (فَرَدَّهُ) أَيْ الطَّعَامَ (فَلَا أَجْرَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ وَإِيصَالُهُ إلَيْهِ.
وَقَالَ زُفَرُ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَمْلِ إلَى الْبَصْرَةِ وَقَدْ أَوْفَى بِهِ، وَجَنَى فِي رَدِّهِ فَلَا يَسْقُطُ بِجِنَايَتِهِ حَقُّهُ مِنْ أُجْرَتِهِ.
(وَكَذَا) لَوْ اسْتَأْجَرَ (لِإِيصَالِ كِتَابٍ إلَيْهِ) أَيْ إلَى زَيْدٍ (فَرَدَّهُ) أَيْ الْكِتَابَ (لِمَوْتِهِ) أَيْ زَيْدٍ أَوْ غَيْبَتِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ هُنَا) أَيْ لَهُ الْأَجْرُ لِلذَّهَابِ فِي نَقْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَمْلِ الْكِتَابِ لِخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَقْلُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْكِتَابِ لَكِنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَقَدْ نَقَضَهُ فَسَقَطَ الْأَجْرُ هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَجْمَعِ وَشَرْحِهِ حَيْثُ صَرَّحَ بِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ لَا مَعَ الْإِمَامِ لَكِنْ يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ.
(وَلَوْ تَرَكَهُ) أَيْ الْكِتَابَ (هُنَاكَ لِلْوَرَثَةِ)، وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى وَصِيِّهِ (فَلَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ إجْمَاعًا)؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا فِي وُسْعِهِ، وَهَذَا إذَا شَرَطَ الْمَجِيءَ وَإِلَّا وَجَبَ كُلُّ الْأُجْرَةِ لَوْ تَرَكَ الْكِتَابَ ثَمَّةَ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يُوَصِّلْهُ إلَيْهِ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ لِانْتِفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِيصَالُ.